فصل: سورة التحريم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (12):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}
يقول الحق جلّ جلاله: {اللهُ الذي خلق سبعَ سموات}: مبتدأ وخبر، وقد أجمع المفسرون أنَّ السموات سبع، {ومن الأرض مثلَهن}، وليس في القرآن آية تدل على أنَّ الأرضين سبع غير هذه الآية، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وغلظ كلّ سماءٍ كلذلك، والأرضون مثل السموات، والجمهور أنها طباق، بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة، كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سُكَّان مِن خلق الله تعالى، قيل: الجن، وقيل: الملائكة، وقال الضحاك: مطبقة بعضها فوق بعض، من غير فتوق، بخلاف السموات. قال القرطبي: والأول هو الأصح؛ لأنَّ الأخبار دالة عليه، كما ورد في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا رأى قرية أو مدينة: «اللهم رب السموات السبع، وما أظللن، ورب الأرضين السبع، وما أقللن...» الحديث. وفي الحديث أيضاً: «مَن غصب شبراً من أرض طوّقه الله له من سَبْع أرَضِين». اهـ.
واختلف: هل يرون السماء، ويستمدًّون منها الضوء، قولان، أحدهما: إنهم يُشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم، ويستمدُّون الضياء منها، والثاني: أنهم لا يُشاهدون السماء، وأنَّ الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه. وعن ابن عباس أيضاً: «إنها سبع أرضين متفرقة بالبحار وتظل الجميع السماء». وقيل: الأرض واحدة إلاَّ أنَّ الأقاليم سبعة، فالمثلية على هذا في عِظم الجرم، وكثرة العمار، وغير ذلك. والأول أرجح لِما تقدّم. وقد ذكر المنذري حديثاً بيَّن فيه ما يعمرُ أرض، فبعضها فيها حجارة الكبريت وقوم جهنم، وبعضها فيها خزائن الريح، وفي أسفلها عرش إبليس، فانظره.
{يَتَنزَّلُ الأمرُ بينهن} أي: يجري أمره وقضاؤه بينهن، وينفذ حكمُه فيهن. وعن قتادة: في كل سماءٍ وفي كل أرضٍ خلقٌ مِن خلقه، وأمرٌ نافذ من أمره، وقضاء من قضائه. وقيل: هو ما يدبّر فيه من عجائب تدبيره، من إنزال المطر، وإنبات النبات، والإتيان بالليل والنهار، والصيف والشتاء، وخلق الحيوانات المختلفة. وقال الغزالي: يتنزّل الأمر بالقدر من حضرة الربوبية إلى حملة العرش، ثم تتلقى ملائكة السموات ذلك منهم، ثم تصريفهم بذلك إلى أهل الأرض، وإجرائهم على مقتضاه. وقيل: يتنزّل الأمر بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى، وهل لكل أرض رسول، أم لا؟ الله أعلم.
{لتعلموا أنَّ اللهَ على كل شيءٍ قديرٌ} أي: فعل ذلك لتعلموا عموم قدرته، {وأنَّ اللهَ قد أحاط بكل شيءٍ علماً} لاستحالة صدور هذه الأفاعيل المذكورة ممن ليس كذلك. ويجوز أن يكون العامل في اللام بيان ما ذكر من الخلق وتنزُّل الأمر، أي: أوضَحَ ذلك بيّنه لتعلموا بما ذكر من الأمور التي تُشاهدونها، والتي تتلقونها من الوحي، وعجائب المصنوعات، أنه لا يخرج عن قدرته وعلمه شيء أصلاً.
الإشارة: سموات الأرواح سبع طبقات، تعرج فيها إلى عرش الحضرة. سماء التوبة، ثم سماء الصبر، ثم سماء الورع والزهد، ثم سماء الرضا والتسليم، ثم سماء المحبة، ثم سماء المراقبة، ثم سماء المشاهدة، ثم الاستواء على عرش الحضرة، في حضرة الأسرار. وأرض العبودية سبع أيضاً، وبالتنزُّل فيها تهوي النفس إلى عرش إبليس، في حضرة الفرق، وبالخروج عنها تعرج في سماوات الأرواح، وهي أرض الشهوة، ثم أرض الغفلة، ثم أرض حب الدنيا، ثم أرض حب العلو والجاه، ثم أرض هَم الرزق وخوف الفقر، ثم أرض التدبير والاختيار، ثم أرض الغضب والحقد والحسد، فبهذه الأخلاق المذمومة يهوي العبد إلى أسفل سافلين. فإذا ترقّى عن هذه الأرضين، وسما في سماء الأرواح، يتنزّل على قلبه الوحي الإلهامي، والكشف الرباني. قال تعالى: {يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أنّ الله على كل شيءٍ قدير}، أي: ليحصل لكم العلم الحقيقي بقدرة الله وعلمه وإحاطة ذاته.
قال الورتجبي: لو كانت للأشباح قيمة في المعرفة كالأرواح لم يخاطبها بالعلل والاستدلال، لتعلم برؤية الأشياء وجود الحق، وكانت كالأرواح في الخطاب بلا عِلّة في تعريف نفسه إياها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] هناك خطاب وشهود وتعريف بلا عِلّة، فلما عَلِمَ عجزها عن حمل واردات الخطاب الصِّرف أحالها إلى الشواهد، وليس بعارفٍ في الحقيقة مَن عرفه بشيءٍ من الأشياء، وسببٍ من الأسباب، فمَن نظر إلى خلق الكون يعرف أنه ذو قدرة واسعة وإحاطة شاملة، يخاف من قهره، ويذوب قلبه بعلمه في رؤية اطلاع الحق تعالى عليه. اهـ. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.

.سورة التحريم:

.تفسير الآيات (1- 2):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أحلَّ اللهُ}. في سبب نزول هذه السورة روايتان؛ إحداهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يوماً إلى بيت زوجه حفصة، فوجدها ذهبت لزيارة أبيها، فبعث إلى جاريته مارية، فقال معها في البيت، فجاءت حفصة، فقالت: يا رسول الله؛ أما كان في نسائك أهون مني، أتفعل هذا في بيتي، وعلى فراشي؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام: «أيُرضيك أن أُحَرِّمها»؟ فقالت: نعم، فقال: «إني قد حَرّمتها» زاد ابن عباس: وقال مع ذلك: «والله لا أطؤها أبداً»، ثم قال لها: «لاتُخبري بهذا أحداً، وأُبشرك أنَّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي» ثم إنِّ حفصة قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة، وأخبرتها، وكانتا مصادقتين، ولم ترَ في إفشائها حَرَجاً، واستكتمتها، فأوحى الله إلى نبيه بذلك. ورُوي أنه عليه السلام طلَّق حفصة، واعتزل نساءه، فمكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية، فنزل جبريلُ، وأمره برَدِّها، وقال له: إنها صوّامة قوّامة، وإنها من نسائك في الجنة، فردَّها.
والرواية الثانية: أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش، فتسقيه عسلاً، فاتفقت عائشةُ وحفصة وسودة على أن تقول له مَن دنا منهن: أكلتَ مغافير، وهو ضمغ العُرفُط، وهو حلو كريه الريح، ففعل ذلك، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا، ولكني شربتُ عسلاً»، فقُلن له: جَرَست نحلُه العُرفُط أي: أكلت، ويقال للنحل: جراس، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا أشربه أبداً»، وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة، فدخل بعد ذلك على زينب، فقالت: ألاَ أسقيك من ذلك العسل؟ فقال: «لا حاجة لي به» فنزلت الآية عتاباً له على أن ضيَّق على نفسه تحريم الجارية والعسل. والرواية الأولى أشهر عند المفسرين والثانية خرّجها البخاري في صحيحه.
فإن قلتَ: لِمَ عاتبه اللهُ على هذا التحريم، ولم يعاتب يعقوبَ على تحريم لحوم الإبل على ما ذكر في سورة آل عمران؟ قلتُ: رتبة نبينا عليه الصلاة والسلام أرفع في المحبة والاعتناء، فلم يرضَ منه أن يُضيّق على نفسه، أرأيت إن كان لك ولد تُحبه، ووسعتَ عليه، ثم أراد أن يُضيّق على نفسه، فإنك لا ترضى له ذلك، محبةً فيه، وشفقة عليه. وانظر تفسير ابن عرفة.
قال ابن جزي: ولنتكلم على فقه التحريم: فأمّا تحريم الطعام والمال وسائر الاشياء ما عدا النساء فلا يلزم، ولا شيء عليه فيه عند مالك، وأوجب عليه أبو حنيفة كفارة اليمين، وأمّا تحريم الأَمة فإن نوى به العتق لزم، وإن لم ينو به ذلك لم يلزم، وكان حكمه ما ذكرناه في الطعام، وأمَا تحريم الزوجة، فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة، فقال أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم: إنما يلزم فيه كفارة يمين. اهـ.
قلت: وظاهره: سواء قال لها: أنتِ حرام، أو حلف بالحرام واحداً أو ثلاثاً، وسواء كان منجّزاً أومعلّقاً، كما إذا قال: كل امرأة تزوجتُها عليكِ فهي حرام، مثلاً، فلا يلزم من ذلك شيء على قول هؤلاء السادات رضي الله عنهم. ثم قال: وقال مالك في المشهور عنه: هي ثلاث تطليقات في المدخول بها وينوي في غيرها، وقال ابن الماجشون: هي ثلاث في الوجهين، ورُوي عن مالك: أنها طلقة بائنة قلتُ: وبهذا جرى العمل اليوم وقيل: رجعية. اهـ.
{تبتغي مَرْضَاتَ أزواجِك}: حال، أو استئناف مُبيّن للحال الداعي، أي: تطلب رضا أزواجك بالتضييق على نفسك، والمراد: رضا حفصة، وهذا يُؤيد أنها نزلت في تحريم الجارية، وأمّا تحريم العسل فلم يقصد به رضا أزواجه، وإنما تركه لرائحته. {واللهُ غفور} أي: غفور لك ما كان تركه أولى من الصدع بالحق من غير مبالاة بأحدٍ، ولا تُضيّق على نفسك، {رحيم} بك، حيث وسّع عليك، ولم يرضَ لك أن تُضيق على نفسك. قال القشيري: ظاهرُ هذا الخطاب عتابٌ على كونه حَرَّمَ على نفسه ما أحلّه اللهُ لمراعاة قلب امرأته، والإشارة فيه: وجوب تقديم حق الله على كل شيء في كل وقت. ثم قال تعالى، عنايةً بأمره: {قد فرض اللهُ لكم تَحِلَّةَ أيمانكم} وتجاوزاً عنه بما كان تركه أولى. اهـ.
والحاصل: أنه تعالى غفر له ميله للسِّوى سهواً، والسهو قهرية الحق تعالى، قهر بها عبادَه ليتميّز ضعف العبودية من قوة الربوبية، وهو ليس بنقصٍ في حق البشر، لكنه لمّا كان في الغالب لا يحصل إلاَّ مع عدم العزم عُدَّ تفريطاً وهفوة، كما قال تعالى في حق آدم: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]، فالمغفرة في الحقيقة، وطلب التوبة من السهو، إنما هو لقلة العزم وعدم الحزم، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، ولا تصغ بأذنك إلى ما قاله الزمخشري ومَن تبعه من كون ما فعله عليه السلام زلة، حيث حرّم ما أحلّ الله، فإنه تجاسر على منصب النبوة، وقلة أدب. وقوله تعالى: {ما أحلّ الله لك} زيادة {لك} تَرُدّ ما زعمه الزمخشري، ولو كان كما قال لقال له: لِم تحرم ما أحلّ الله.
ثم قال تعالى: {قد فَرَضَ اللهُ لكم تَحِلَّةَ أَيمانكم} أي: شرع لكم تحليلها، وهو حل ما عقده بالكفَّارة، أو بالاستثناء متصلاً، والأول هو المراد هنا، وهل كفَّر عليه الصلاة والسلام؟ قال مقاتل: أعتق رقبةً، وقال الحسن: لم يُكفِّر؛ لأنه مغفور له. قال بعضهم: هذه التحلة إنما هي لليمين المقرونة بالتحريم، وقال بعضهم: بل هي لنفس التحريم، وبه تمسّك أبو حنيفة في تحريم الحلال، فأوجب كفارةَ اليمين.
{واللهُ مولاكم} أي: سيدكم ومتولي أمورَكم، فلا يُحب ما ضيّق عليكم. قال في الحاشية الفاسية: ومَن تأمّل هذه السورة لاح له منزلةَ حبيب الله عند الله، وحقق معنى قول عائشة: يا رسول الله؛ ما أرى ربك إلاّ يُسارع في هواك الحديث متفق على صحته ه {وهو العليمُ} بما يُصلحكم، فيشرعه لكم، {الحكيمُ} المتقن في أفعاله وأحكامه، فلا يأمركم ولا ينهاكم ألاَّ بما تقتضيه الحكمة البالغة.
الإشارة: هذا العتاب يتوجه لكل مَن سبقت له عند الله عناية وزلفى، إذا ضَيّق على نفسه فيما أحلّ اللهُ له، فلا يرضى منه ذلك، محبةً فيه، وقد صدر مني مثل هذا زمان الوباء، فحلفت لبعض أزواجي: أني لا أتزوج عليها، وسبب ذلك أنها كانت مصارِمة لي، في غاية الغضب والقطيعة، وقد كان غلب على ظني الموت، لِما رأيتُ من الازدحام عليه، فخفتُ أن نموت متقاطعَين، فلمّا حلفتُ لها رأى بعض الفقراء من أصحابنا: أنه يقرأ عليّ أو معي: {يا أيها النبي لِمَ تُحرم...} إلخ السورة، ففهمت الإشارة على أنّ اليمين لا تلزم، والله أعلم، لأنّ بساط اليمين كان غلبة ظن الموت، فلما تخلّف انحل اليمين، كقضية الرجل الذي وجد الزحام على اللحم، فحلف لا يشتري لحماً أبداً، ثم وجد الفراغ، فقال مالك: لا يلزمه شيء. اهـ.
وقال الورتجبي: أدب نبيه عليه الصلاة والسلام ألاَّ يستبد برأيه، ويبتع ما يُوحى إليه. اهـ. وجعل القشيري النبيَّ إشارة إلى القلب، أي: يا أيها القلب المتوجِّه لِمَ تُحرم ما أحلّ الله من حلاوة الشهود، تبتغي مرضاة نفسك وحظوظها، فتتبع هواها، وتترخّص في مباحات الشريعة، وهي تحجب عن أسرار الحقيقة، أو: لِمَ تُحرِّم ما أحلّ الله من الاستغراق في سُكر بحر الحقيقة، تبتغي مرضاة بقاء نفسك، والشعور بوجودها. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «لي وقت لا يَسعني فيه غير ربي» وكان يقول لعائشة حين يغلب عليه السُكْر والاضمحلال في الحق: «كلميني حركيني يا حميراء» وكذلك القلب إذا غلب عليه الوجد، وخاف من الاصطلام، أو مِن مَحق البشرية، يطلب مَن يبرد عليه مِن نفسه أو مِن غيره، وقد سَمِعْتُ مِن شيخ شيخنا رضي الله عنه أنه قال: كان يغلب عَلَيَّ الوجد والسكر، فكنت أذهبُ إلى مجالسة العوام ليبُرد عليّ الحال، خوفاً من الاصطلام أو المحق، وذلك بعد وفاة شيخه.
وقوله تعالى: {والله غفور رحيم} أي: فلا يؤاخذ العبدَ بهذا الميل اليسير إلى الحس، دواء لنفسه، قد فرض اللهُ لكم تحلةَ أيمانكم، أي: الميل اليسير إلى الرفق بالنفس؛ لأنها مطية القلب، بمجاهدتها يصل إلى كعبة الوصول، وهي حضرة الرب. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (3- 5):

{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وإِذ أَسَرَّ} أي: واذكر أيها السامع حين أَسَرَّ {النبيُّ إِلى بعض أزواجه} يعني حفصة {حديثاً}؛ حديث تحريم مارية، أو العسل، أو إمامة الشيخين، {فلما نَبَّأَتْ به} أي: أخبرت حفصةُ عائشةَ بالحديث وأفشته، فحذف المفعول، وهو عائشة، {وأظْهَرَه اللهُ عليه} أي: أطلع اللهُ تعالى نبيَّه عليه الصلاة والسلام على إفشاء حفصة على لسان جبريل عليه السلام، أو: أظهر الله عليه الحديث، من الظهور، {عَرَّفَ بعضَه} أي: عرَّف النبيُّ صلى الله عليه وسلم حفصةَ بعض الحديث الذي أفشته، قيل: هو حديث الإمامة، رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: «ألم أقل لك اكتمي عليّ»؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما ملكتُ نفسي فرحاً بالكرامة التي خَصَّ اللهُ تعالى بها أباها.
{وأَعْرَضَ عن بعضٍ} فلم يُخبرها تكرُّماً. قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الحسن: ما استقصى كريم قط. وقرأ الكسائي: {عَرَف} بالتخفيف، أي: جازى عليه، من قولك للمسيء: لأعْرِفَنَّ لك ما فعلت، أي: لأجازينَّك عليه، فاجازاها عليه السلام بأن طلَّقها، وآلى من نسائه شهراً، وقعد في مشربة مارية حتى نزلت آية التخيير، وقيل: هَمَّ بطلاقها، فقال له جبريل: لا تُطلِّقها، فإنها صوّامة قوّامة. اهـ. قيل: المعرّف: حديث الإمامة، والمعرَض عنه: حديث مارية. {فلما نَبَّأها به} أي: أخبر صلى الله عليه وسلم حفصةَ بما عرفه من الحديث، قالت حفصة للنبي عليه السلام: {مَن أنبأكَ هذا قال نبأنيَ العليمُ الخبيرُ} الذي لا تخفى عليه خافية.
{إِن تتوبا إِلى الله}، الخطاب لحفصة وعائشة، على الالتفات للمبالغة في العتاب، {فقد صَغَتْ قُلوبُكما}؛ مالت عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مِن حُب ما يُحبه، وكراهة ما يكرهه، وكان عليه الصلاة والسلام شقَّ عليه تحريم مارية وكَرِهَه، وهما فرحا بذلك. وجواب الشرط: محذوف، أي: إن تتوبا إلى الله فهو الواجب، فقد زالت قلوبكما عن الحق، أو: تُقبلْ توبتكما، أو هو: {فقد صغت} أي: إن تتوبا زاغب قلوبكما فاستوجبتما التوبة، أو: فقد كان منكما ما يقضي أن يُتاب منه. قال ابن عطية: وهذا الجواب للشرط، وهو متقدم في المعنى، وإنما نزلت جواباً في اللفظ. اهـ. وقرئ {زاغت} من الزيغ.
{وإِن تَظَاهرا عليه} أي: تتعاونا عليه بما يسوؤه، من الإفراط في الغيرة، وإفشاء سرّه، والفرح بتحريم مارية، {فإِنَّ اللهَ هو مولاه}؛ وليُّه وناصره، وزيادة {هو} إيذان: أنّه يتولّى ذلك بذاته بلا واسطة، {وجبريلُ} أيضاً وليّه، الذي هو رئيس الملائكة المقرّبين، {وصالحُ المؤمنين} أي: ومَن صلح مِن المؤمنين، أي: كل مَن آمن وعمل صالحاً، وقيل: مَن برئ مِن النفاق، وقيل: الصحابة جملة، وقال ابن عباس: أبو بكر وعمر، ورُوي مرفوعاً، وبه قال عكرمة ومقاتل، وهو اللائق؛ لتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام، فإنه جمع بين التظاهر المعنوي والتظاهر الحسي، فجبريل ظاهَره عليه السلام بالتأييدات الإلهية، وهما وزيراه وظهيراه في أمور الرسالة، وتمشية أحكامها الظاهرة، ولأنَّ تظاهرهما له صلى الله عليه وسلم أشد تأثيراً في قلوب ينتيْهما، وتوهيناً في حقهما، فكانا حقيقا بالذكر، بخلاف ما إذا أريد به جنس الصالحين، كما هو المشهور.
قاله أبو السعود.
{والملائكةُ} مع تكاثر عددهم وامتلاء السموات من جموعهم {بعد ذلك} أي: بعد نصرةِ الله عزّ وجل، وناموسه الأعظم، وصالح المؤمنين، {ظهيراً} أي: فوْج ظهير مُعاون له، كأنهم يد واحدة على مَن يعاديه، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على مَنْ هؤلاء ظُهراؤه؟ ولمّا كانت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله، قال: {بعد ذلك} تعظيماً لنصرتهم ومظاهرتهم.
{عسى ربُّه إِن طَلَّقكُنَّ أن يُبْدِلَه} بالتخفيف والتشديد للتكثير، أي: يعطيه اللهُ تعالى بدلكن {أزواجاً خيراً منكن}، قال النسفي: فإن قلتَ: كيف تكون المبدّلات خيراً منهنَ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين؟ قلتُ: إذا طلّقهنّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لإيذائهنّ إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيراً منهن. اهـ. وأجاب أبو السعود: بأنّ ما عُلّق بما لم يقع لا يجب وقوعه. اهـ. وليس فيه ما يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يُطلِّق حفصة، فإنّ تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة.
ثم وصف المبدَلات بقوله: {مُسلماتٍ مؤمناتٍ} أي: مُقرّات مخلصات، أو: منقادات مصدّقات، {قانتاتٍ}؛ طائعات، فالقنوت: هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله، {تائباتٍ} من الذنوب {عابداتٍ}؛ متعبدات متذللات، {سائحاتٍ}؛ صائمات، وقيل للصائم: سائح؛ لأنَّ السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يُطعمه، فشبّه به الصائم في إمساكه إلى وقت إفطاره، أو: مهاجرات. قال زيد بن أسلم: لم يكن في هذه الأمة سياحة إلاَّ الهجرة، {ثيباتٍ وأبكاراً}، إنما وسط العاطف بين الثيبات والأبكار، دون سائر الصفات؛ لأنهما صفتان متباينتان، وعَطْف الأبكار على الثيبات من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، كقوله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولاَ كَبِيرَةً...} [التوبة: 121]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: توجه العتاب له صلى الله عليه وسلم مرتين في تحريم الجارية، وفي إخفائه لذلك، إذ فيه بعض مراقبة الخلق، والعارف لا يُراقب إلاّ الحق، فهذا قريب من قوله تعالى: {وَتَخْشَى الناس والله أّحَقُّ أَن تخشاه} [الأحزاب: 37]، ففيه من التصوُّف: أنَّ العارف يكون الناس عنده كالموتى، أو كالهباء في الهواء، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الناس عنده كالأباعر»
إذا ليس بيدهم نفع ولا ضر.
وإشارة الآية على ما قال القشيري: وإذ أَسَرَّ القلبُ إلى بعض أزواجه، وهي النفس والهوى، حديث المخالفة، على طريق «شاوروهنّ وخالِفوهنّ» فلما نبأت النفسُ الهوَى لتفعلا ذلك، وأظهره الله عليه بوحي الإلهام، عَرَّف بعضَه وأعرض عن بعض، أي: عاتبهما على البعض، وسامحهما في الآخر، فلما نبأ القلبُ النفسَ بما أفشت للهوى، قالت: مَن أنبأك هذا.. إلخ، إن تتوبا إلى الله، وتنقادا لحكمه فقد وقع منكما ما يوجب التوبة، وإن تظاهرا على القلب بتزيين المخالفة وتتبع الحظوظ والشهوات، فإنَّ الله هو مولاه، ينصره بالأجناد السماوية والأرضية، من التأييدات والواردات، عسى ربه إن طلقكن وغاب عنكن أن يُبدله أخلاقاً طيبة، ونفوساً مطمئنة، مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ، عابداتٍ سائحاتٍ بأفكارها في ميادين الغيوب، وبحار التوحيد، ثيبات، أي: تأتي بعلوم الرسميات وأبكار الحقائق.